تاريخ الاناضول Date of Anatolia

الجزء الشرقي من البحر المتوسط، آسيا الصغرى، في يومنا هذا تدعى تركيا. الحضارات الإيجية _ الأناضولية بين الألف الثاني قبل الميلاد والقرن السادس بعد الميلاد.

حضارات أناضوليا المنسية

المعلّق:

مدينة "حتّوسة" في عام 1190 قبل الميلاد: الخرائب هي كل ما بقي من عاصمة الحثيين التي كانت مدينة رائعة ذات يوم. الجدير بالذكر أن حضارتهم كانت واحدة من أقوى حضارات العالم القديم . وقد كان المصير نفسه ينتظر مدناً حيثية أخرى:وهو لهب النيران العنيف في كل مكان, أحجار القرميد المستعملة في بناء البيوت أصبحت قطعاً مشوهةً. أما الذين قاموا بهذا التدمير المخيف فهم شعوب محاربة تعرف "بشعوب البحر" وهم من أصل مجهول . بعد آسيا الصغرى، قهر الحثيون سوريا، ووصلوا إلى درجة تهديد مصر القوية التي حكمها في ذلك الوقت فراعنة السلالة الثانية عشرة .

"لم يستطع بلد أن يهيئ مقاومة لجيوشهم. الدول اختفت فجأة وفي لحظة من التاريخ دمّرت كلّها"

الفرعون رعمسيس الثالث استعمل هذه الكلمات ليصف النهاية المفاجئة لحضارة الحيثيين مِنْ قِبَلِ شعوب أتت من البحر، شعوب رسمها في نقوش ضئيلة البروز على جدران قصره في مدينة جبو، قرب الأقصر في مصر. بسبب هذه الشعوب، خيّم الصمت على الجبال والهضاب الأناضولية، وهي قلب الإمبراطورية الحثية بعد ألف سنة من القوة.

واحد من أهم الأدلة على قوة الإمبراطورية الحثية محفوظ في مصر، الأرض التي كانت عدواً لهم في يوم من الأيام الغابرة.

العمودان الاثنان القائمان عند مدخل معبد الأقصر على الضفة اليسرى لنهر النيل، على بعد 435 ميلاً جنوبي القاهرة، مزيّنان بمشاهد المعركة التي وقعت بين الحثيين والمصريين عام 1295 قبل الميلاد في قادش في سورية. رسوم الجنود والعربات الحربية الملونة بألوان ساطعة توضح رعمسيس الثاني, الفرعون المحارب يقاتل من عربته تاركاً وراءه الضحايا بين صفوف الجيش الحثّي الذي كان يقوده الملك "مواتالليس".

من ربح هذه المعركة الملحمية؟

ادعى المصريون الانتصار على أعدائهم في النقش الضئيل البروز في الأقصر

لم تُنَاَقش مصداقية رواية الفراعنة هذه حتى قادت الحفريات الأثرية إلى اكتشاف بعض المدن الحثية القديمة في العقود الأولى للقرن العشرين الميلادي.

نتيجة حفريات الكشف عن الآثار، ما يزيد على عشرة آلاف لوح صلصالي منقوشة بالكتابة المسمارية خرجت إلى الضوء في مباني "حتّوسة" عاصمة الإمبراطورية الحثية.

أحد هذه الألواح، محفوظ في متحف الآثار القديمة في إستنبول، يحمل النقش التالي:"معاهدة قادش السلمية". تنص المعاهدة على بعض الشروط المفروضة على المصريين أحدها أن يتراجعوا إلى داخل حدودهم. وهكذا بعد أكثر من ثلاثة آلاف سنة على ذلك الحدث، وبسبب هذا اللوح، نحن الآن نعرف أن الحثيين هم من ربحوا المعركة وليسوا المصريين.

عبر القرون، شهدت آسيا الصغرى ازدهار حضارات عديدة. بعد الحثيين، وصل البلد إلى مستوى مادي رفيع بسبب السكان الذين كانوا من أصل إغريقي واستقروا على طول سواحله.

فيما بعد، خلال عهد حكم الرومان، أصبحت آسيا الصغرى إحدى أغنى مقاطعات الإمبراطورية الرومانية.

ثم الإمبراطورية الإسلامية العثمانية، التي وصلت فتوحاتها خلال القرن السابع عشر الميلادي إلى أبواب فيينا عاصمة النمسا، كانت تركيا أيضاً مهد الإمبراطورية الرومانية الشرقية البيزنطية.

نيكولاوس، وهو صاحب مقام رفيع في بلاط الإمبراطور البيزنطي جوستينيان، ممثلاً النخبة التي شكلت الجهاز الحكومي الإداري للإمبراطورية في أواسط القرن السادس للميلاد، سوف يقوم بدور الدليل الافتراضي في هذه الرحلة الزمنية الخيالية إلى الوراء حيث نتبعه بحثاً عن الحضارات التي ازدهرت على السواحل والهضبة التركية.

أنقرة هي اليوم عاصمة تركيا، لكن لقرون خلت كانت العاصمة الحقيقية لهذا الجزء من العالم "القسطنطينية"، فيما بعد دعيت بيزنطية، ثم سميت إسلامبول في العهد الإسلامي العثماني ومعناه ( مدينة الإسلام ), ثم صارت فيما بعد (استنبول)وذلك بعد أن تحققت بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم بفتحها.





خلال المدة التي أصبحت فيها روما مدينة عادية، كانت بيزنطية عاصمة قوية ملأى بالآثار.

أحد هذه الآثار مسلة الكرنك القائمة كعمود في أراضي المدرّج الشهير الخاص بالمدينة في النصف الأول من القرن الخامس للميلاد. عند واجهة القاعدة توجد صور أفراد أسرة الإمبراطور تيودوسيوس الثاني وأصحاب المناصب الرفيعة في البلاط يشاهدون سباق العربات في المدرّج الشهير من موقع مرتفع . ونشاهد على أحد جوانب المسلّة رسماً يصف نقل وتشييد المسلّة نفسها.

خلال أيام نيكولاوس، كانت بيزنطة تدعى روما الثانية، وكسابقتها الشهيرة تميزت بيزنطة بتصميمها الحديث وأساساتها الكثيرة.

عند ميدان سباق الخيل يوجد الحوض الملكي، وهو بركة ضخمة في الأرض بنيت في القرن الرابع للميلاد في عهد الإمبراطور قسطنطين. اشتق اسم هذا الحوض من الكنيسة المجاورة التي استعملت أرضها غير المغطاة لتوسيع هذا الحوض.

يبلغ طول هذا الحوض 560 قدماً وعرضه 230 قدماً. وهو مبنيّ من حشد من الأعمدة بلغ 336 عموداً كلها تدعم قبو المبنى.

أما كنيسة صوفيا، أو قبة آيا صوفيا، التي أعيد بناؤها في عهد الإمبراطور جوستينيان في شكلها الأخير كما تظهر عليه اليوم، فهي بناء يعود إلى بيزنطة في القرن السادس للميلاد. وقد تغيّر شكلها الأصلي بعد أن غزا المجاهدون العثمانيون المدينة وفتحوها بفضل الله تعالى؛ إذ حوّلت الكنيسة إلى مسجد وأضيفت أربع مآذن مميزة إليها.

أخرجت الفسيفساء البيزنطية، المغطاة إلى الضوء في القرن العشرين الميلادي عندما حوّل المسجد مع الأسف الشديد إلى متحف آيا صوفيا.

لقد تلقى نيكولاوس أوامر بالتوجه إلى جنوبي مدينة أفروديسياس، المرحلة الأولى لمهمته الدقيقة، ليتحقق إذا ما كانت عبادة الأوثان لا تزال قائمة في أراضي الإمبراطورية البيزنطية بعد أن أصبحت نصرانية. أفروديسياس، مدينة أفروديت، وهي فينوس عند الرومان، أصبحت مهمة جداً خلال العصر الإغريقي الروماني. من المعبد المحلّي انتشرت عبادة هذه الإلهة الباطلة في منطقة المتوسط.

عندما وصل نيكولاوس إلى أفروديسياس من الشمال، فمن المفترض أن الشيء الأول الذي رآه كان مدرّجاً ضخماً. المبنى الضخم المبني في القرن الأول للميلاد وكان يزيد على 850 قدماً وحتى هذا اليوم لا تزال مقاعده الأصلية مرتّبة في ثلاثين صفاً. هذه الميزة جعلته مشهوراً كونه المدرّج القديم الأفضل في العالم من حيث بقاؤه على شكله الأصلي!

ومن المحتمل أن نيكولاوس كان معجباً بمنشآت المدينة التي كانت كلها مغطاة بألواح الرخام البيضاء. في وسط المدينة قام الأغورا، وهو سوقٌ مستطيل محاط من جوانب ثلاثة بصفوف أعمدة. كانت الأعمدة متوّجة بالكابيتولات والحلى المعمارية المزخرفة، وهي الآن موضوعة في حديقة المتحف في أفروديسياس لكن ذلك يعيد تمثيل الجو الأصلي بشكل جزئي فقط.

في الجزء الجنوبي الغربي يقع مسرح محفوظ وقائم بشكل كامل ويعود تاريخه إلى نهاية القرن الثاني للميلاد. سعة هذا المسرح عشرة آلاف متفرّج.

وقد بناه "جوليوس زوليوس" وأهداه لأفروديت المعبودة الخرافية والمدينة.

مواطن من أفروديسياس، زوليوس كان عبداً سابقاً للإمبراطور أغسطس. وقد قدم للمدينة خدمة مهمة جداً بتمكينها من الحصول على منزلة خاصة وهي أن تكون مدينة تتمتع بالحكم الذاتي ومعفاةً من الضرائب.

في الوقت ذاته، كان نيكولاوس قد وصل إلى "التترابايلون" بوابة أفروديت وهو السبب الذي لأجله أتى إلى المدينة .

كان التترابايلون مؤلفاً بالأصل من صفوف أربعة، وكل صف مؤلف من أربعة أعمدة . إنه حالة جيدة جداً من الحفظ والصيانة بأعمدة مخدّدة بشكل لولبي وأشكال الجملون لا زالت في مكانها.

هذا اليوم، التتراهو أثر معزول، لكن في الأزمنة القديمة فإن مجموعة منازل وبيوت تجارية بالإضافة إلى طريق كانت تربطه بمعبد أفروديت إحدى آلهتهم الباطلة. وقد أعيد بناء الأخير في القرن الأول قبل الميلاد بثمانية أعمدة على الجوانب القصيرة وخمسة عشر عموداً على الجوانب الطويلة.

لكن ماذا كان يجري في هذا المكان البغيض الفاسد لكي يثير اهتمام نيكولاوس؟

كان المعبد مشهوراً في الزمن القديم بسبب ممارسة البغاء المقدّس فيه حسب عقائدهم المنحرفة والذي كان له جذوره في طقوس الخصوبة والتكاثر الوثنية القديمة. لهذا السبب، خلال عهد الحكم البيزنطي، ومن أجل مساعدة السكان على نسيان شعائرهم الدينية الوثنية، حوّل معبد أفروديت إلى كنيسة وأعيد تسمية أفروديسياس باسم ستافرو بوليس، أي مدينة الصليب.





ليس بعيداً من أفروديسياس يقع مركز "باموكال"الحالي، مكان فريد من نوعه في العالم، مشهور بصخوره الطبيعية المشكّلة من أحواض أحجار الكلس المنسقة على مصاطب بيضاء منحدرة . باموكال هي مكان هيرابوليس القديمة التي أسسها ملك "برغاموم" عام 190 قبل الميلاد. وقد دمّرت وأعيد بناؤها بضع مرات ووصلت هيرابوليس ذِرْوَةَ نموها السكاني بين القرنين الثاني والثالث للميلاد، عندما أصبحت مأهولة بالإغريق والرومان واليهود.

من المحتمل أن الأسقف النصراني استقبل نيكولاوس عند وصوله ورحّب به، بما أن المدينة في القرن السادس للميلاد كانت قد أصبحت أسقفية نصرانية. وعلى الرغم من ذلك لم يمنع هذا الناس من الاستمرار في عبادة بلوتو، الإله الوثني الخرافي للجحيم.

عبدة الإله اتبعوا عبادة الجحيم أو العالم السفلي. وربما عنوا بهذا أن الإله المزعوم الذي عبدوه لديه حرية الوصول إلى مملكة الموتى في مكان ما تحت الأرض في هيرابوليس.

خلال مدة حياة نيكولاوس، ثمة طريق تذكاري معمّد بلغ طوله ميلاً تقريباً وعرضه 43 قدماً عبر المدينة . بجوار الشارع المعمّد كان يوجد نافورة مركزية وبركة تحتوي على ماء يعتقد أن له خصائص علاجية أما الآن فقد حوّلت إلى بركة سباحة للسياح.

إن المسرح الذي بني في القرن الثاني للميلاد ثم وسّع مِنْ قِبَلِ أسرة "سثيروس" في القرن الثالث في حالة جيدة جداً من الحفظ. منذ عام 1957م، علماء الآثار القديمة الإيطاليون ما يزالون يعملون هناك مخرجين مكان الجلوس المرتّب في المسرح، بصفوفه الـ 26 ونقوش الرخام والعديدة التي تروي أساطير أبوللو وآرتيمميس.

ربما كان نيكولاوس قد ذهب إلى المقبرة التي امتدت وراء الجدران البيزنطية حيث اكتشف أكثر من ألف قبر كل هذه الآثار لم تكن لتصرف ذلك الموظف الرسمي عن التوجه إلى وسط المدينة حيث البلوتونيوم المعروف أو معبد بلوتو الذي كان مبنياً قرب معبد أبوللو وكلاهما من الآلهة الخرافية الباطلة.

لم يعثر على أي علامات للمعبد في تلك المنطقة حتى الآن، ربما كان تحت الأرض بشكل تام. وعلى الأرجح أنه الكهف الذي كان في الأزمنة القديمة يدعى كهف الجحيم والشياطين. هنا، رقص كهنة الإله الخرافي على شرف زوجة بلوتو، "سيبيل" في حضور قلة من الملقّنين وهذا جزء بسيط من سخافة العقول التي آمنت بتلك الديانات الخرافية الفاسدة.

قال تعالى:

? أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ?44?? [ الفرقان 44 ]

ثمة زائر من الأيام الماضية كتب في مذكرات سفره يقول: "كل حيوان يدخل إلى الكهف يموت في الحال"

هكذا، تماماً كما يحدث هذه الأيام في منطقة حقول "فليجاريان" قرب نابولي، فإن الغازات السامة التي تحتوي على نسبة مرتفعة من حمض الكربونيك قد انتشرت في الكهف.

كيف إذن تسنى للكهنة أن يدخلوا ويخرجوا بصحتهم إلى الكهف؟ هم بالتأكيد، لم يكونوا محصّنين ضد الهواء السام، لكنهم أدركوا أن المادة السامة، لأنها أثقل من الهواء، قد استقرت في قعر المغارة وكانت لذلك مضرة ومؤذية بشكل خطير للحيوانات الصغيرة. ولذلك فإن قلة من الملقنين لعبادة بلوتو الخرافي فقط كانوا مطلعين على هذا السر ويحافظون عليه حتى تبقى لهم السيطرة التامة على عقول الناس.

بعد التوقف في هيرابوليس، انطلق نيكولاوس متابعاً طريقه في رحلته المتجهة إلى الشرق في الزمن الماضي، وصل إلى جورديون، / التي تدعى حالياً "أليسار هويوك" وهي تقريباً على مسافة 60 ميلاً من أنقرة.

كانت جوردون عاصمة "فريجيا" وهو إقليم قديم في أناضوليا سمّي على اسم الفريجيين، الشعب الذي عاش هناك منذ عام 1200 قبل الميلاد تقريباً.





ربما لم يتمكن نيكولاوس من معرفة أن "الفريجيانز"كانوا أحد شعوب البحر المسؤولة عن تدمير الإمبراطورية الحثية. وأصل هؤلاء من ترايس وهي مقاطعة في طرف الرأس الشرقي لشبه جزيرة البلقان وقد عاشوا عهد من القوة الكبيرة حوالي في القرن الثامن قبل الميلاد .

أخرج المكان الذي تقع فيه جورديون القديمة جزئياً إلى النور. أما بقايا جورديون المدينة والقاعات الكبيرة التي كانت جزءاً من القصر الملكي فهي تعبر عن حجمها الأصلي. وقد كشفت الحفريات الأثرية عن عناصر الزخرفة والأثاث, وهي الآن محفوظة في متحف الحضارات الأناضولية في أنقرة. فوق كل ذلك، فإن بقايا الأثاث الخشبي مع سناداتها العاجية تبدو متقنة.

أول ملك قوي على فريجيا، هو الملك الخرافي الأسطوري "ميداس"الذي تقول الأساطير عنه أنه كان يحوّل كل شيء يلمسه إلى ذهب. ذلك الملك عاش في تلك المدينة. في عام 1949م اكتشفت بعثة أميركية للتنقيب عن الآثار ضريحه، وبذلك حوّلت الأسطورة إلى شخصية تاريخية.

الضريح كان قطره 820 قدماً وارتفاعه 174 قدماً. لكي يقتربوا من حجرة الدفن كان على علماء الآثار أن يحفروا نفقاً طوله 230 قدماً. عندما انتهوا من الحفر وصلوا إلى قاعة واسعة بقياس (20 في 17) قدماً وكلّها مزينة بألواح الخشب.

هنا يقع ضريح الملك ميداس الذي أعيد جمعه وبناؤه في متحف أنقرة، وضع الجثمان على سرير خشبي في الجانب الشمالي. أثبت تحليل العظم أن هذا الرجل عند موته كان في الستين من عمره تقريباً وطوله أكثر من 5 أقدام بقليل.

بمساعدة التقنية الحديثة، نجح علماء الآثار في إعادة رسم شكله ومظهره الذي تخيلوه. كانت عدة الدفن كنزاً حقيقياً: حوامل أو مناصب ثلاثية القوائم كثيرة، أحواض وتوابيت برونزية، ولكن لم يكن في ضريح الملك الأسطوري ميداس قطعة ذهبية واحدة على الأقل! وهذا أوضح تكذيب للخرافة التي زعمت أنه كان يحول كل شيء يلمسه إلى ذهب.

انطلق نيكولاوس في المرحلة الأخيرة من رحلته إلى الشرق: إلى المدن الكبيرة في الإمبراطورية الحثية في وسط الجبال الأناضولية.

كان الحثيون شعباً متحدراً من أصول هندو_أوروبية وصل إلى هناك مع نهاية الألف الثالث قبل الميلاد تقريباً من أقاليم تقع شمالي البحر الأسود.

إن حل ألغاز ألواح الشفرة في عاصمة الحثيين "حتوسة"، المحفوظة في متاحف تركية مختلفة، قد سمح لنا أن نعرف جوانب كثيرة عن الحياة الاجتماعية والسياسية للحثيين بالإضافة إلى انتصارات ملوكهم وجيوشهم .

في أيام نيكولاوس، لا بد أن الزمن قد محا تقريباً كل الآثار المهمة في تلك الحضارة القديمة. في القرن السادس للميلاد، كان باستطاعة الناس زيارة المعبد الحثي الوثني العظيم في يازيليكايا، المشيد في عام 1400 قبل الميلاد. ذلك المكان المخصص للآلهة الوثنية الشريرة التي كانوا يعتقدون بها، لا بد انه كان مرعباً لنيكولاوس.

يقسّم المعبد إلى محيطين محفورين في كتلة من الصخر ارتفاعها 40 قدماً وقد سماهما علماء الآثار غرفة ( أ ) وغرفة ( ب)، كلا الغرفتين مزخرف بالنقوش الضئيلة البروز المنحوتة على الحيطان العارية.

تحتوي الغرفة ( أ ) على رسم لموكبين. أحدهما مؤلف بمعظمه من شخصيات مذكرة .

الموكب الآخر مؤلف من شخصيات مؤنثة وعلى رأسه إله خرافي، هو على الأرجح إلهة الشمس "هيبات".

ليس بعيداً، ثمة مدخل صغير محاط من جانبيه بتمثالين يرمزان إلى شيطانين بجسم أسد يقود إلى الغرفة ب وهي بقياس(10 في 60) قدماً تقريباً. اثنتا عشرة صورة بملابس ومعاني متشابهة تبرز على أحد الجدران. تصوير لسيف هائل ارتفاعه أكثر من عَشَرَةِ أقدام مرسوم وكأنه يخترق الصخر ويبدو حقيقياً وأصلياً. تشكل رؤوس أربعة أسود المقبض بينما يشكل رأس بشري الرمانة وهي العجزة المدورة في مقبض السيف.

ماذا يمكن لتصوير من هذا النوع أن يعني؟

حُلَّ لغزُ الغموضِ عندما اكتُشِفُُ وَصْفٌُ لإلَهة (العالم السفلي) الخرافية في نص ديني حثي . وقد وصفوا فيه بأنهم سيوف تخترق الأرض.





السيف هنا رمز "نيرجال" الخرافي إله الحياة بعد الموت. بالإضافة إلى ذلك، فإن اكتشاف الهياكل العظمية للطيور، وهي مخلوقات كانت تقدم أضاحي وقرابين لآلهة العالم السفلي المزعومة بشكل تقليدي، قاد العلماء إلى افتراض أن تلك الغرفة كانت تستعمل لعبادة الموتى وهي من أشنع العبادات الوثنية فلقد أضلهم إبليس اللعين وطمس على عقولهم وقلوبهم فانحدروا إلى دركات دنيئةمن الانحطاط والكفر.

قال تعالى:

? وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا .. ? [الأعراف: 179].

على خلاف "حتوسة"، العاصمة القوية للإمبراطورية فإن "يازيليكايا"لم تدمر . لم يتمكن نيكولاوس أن يتصور ما هو موجود تحت سطح الأرض التي سار عليها، وذلك لأن "حتوسة" في القرن السادس للميلاد، لم تستطع أن تستقبل المسافرين, دمّرت منطقة "حتوسة" وأعيد بناؤها عدة مرات. أقدم الشهادات عن بداية سكن هذه المنطقة تعود إلى نهاية الألف الثالث قبل الميلاد، لكن المخطط البياني الحقيقي لتطوّر المدينة يعود إلى عام 1650 قبل الميلاد تقريباً.

استخرجت الحفريات الأثرية المستوطنة الأخيرة، المتميزة بأعمال تخطيط واسعة للمدينة والتي بدأت تقريباً أواسط عام 1300 قبل الميلاد.

بنيت حتوسة على ثلاثة مستويات: المدينة العليا والقلعة والمدينة السفلى، وهي محاطة بشكل كامل بالجدران التي استفادت من الطبيعة الصخرية للمنطقة ومنبسط يبلغ ارتفاعه 4000 قدماً، محاط بجدران شديدة الانحدار ومداخل صخرية. شكّلت الجدران دائرة بلغ محيطها ثلاثة أميال ونصف الميل تقريباً. فوق حصن أرضي، علوّه 30 قدماً، كما شيّدوا جدراناً مزودة بفتحات، هذه الجدران متناوبة مع أبراج مستطيلة ضخمة.

سمح هذا الاكتشاف لعلماء الآثار أن يفهموا كيف بني الجدار.

ربما كان نيكولاوس قد تجوّل حول الخرائب الأثرية في حتوسة مكتشفاً قطعاً صغيرة من الماضي البعيد. لم يتمكن من تخيّل الكنز المخبأ في الأرض تحت قدميه.

إلى الشرق من مواقع الحفريات الأثرية، وجد علماء الآثار البوابة الملكية المعروفة أو بوابة الملوك. وقد أحاط بها برجان هذه البوابة ذات الألواح البرونزية قد زوّدت المكان بدفاع إضافي.

تمثالان كبيران لإله الحرب المزعوم منصوبان عند قاعة المدخل. "لكنهما نسخة فقط؛إذ إن التمثالين الأصليين موجودان في متحف أنقرة. "

تحت بوابة أخرى، وهي بوابة ( أبو الهول ) كان يوجد مدخل مؤلف من نفق طوله 260 قدماً كان مغلقاً من الطرفين بأبواب ضخمة. وبعد سير طويل في الظلام كان بإمكانهم الوصول إلى ضوء الشمس الساطع في المدينة.

إلى الغرب كان يوجد بوابة الأسد. أسدان، منحوتان على عضادات البوابة بفكين مفتوحين مُهَدَّدَيْنِ، هما الحارسان الرمزيان للمدينة. يبدو من الحفريات الأثرية أن المدينة لم يكن لها مخطط بياني. لأن الشوارع كانت ملتوية ومتعرجة وأحياناً حادة الزوايا.

وجد علماء الآثار في المدينة العليا أبنية كثيرة حددت هويتها على أنها معابد. تلك المعابد التي تعود إلى عام 1300 قبل الميلاد لديها قاسم مشترك واحد مع معابد الإنكا التي بنيت بعد ذلك بآلاف السنين في أميركا الجنوبية.

رتّبت الكتل الضخمة بشكل تام مرصوفة دون أي فراغات بين الحجارة.





انتصب البناء المقدس عندهم الذي صنّفه علماء الآثار على أنه المعبد رقم واحد في المدينة السفلى، وهي على الأرجح القسم الأقدم في المستوطنة.

إنه مكان مدني مربع الشكل طوله من كل جانب 980 قدماً تقريباً، وهو مقسوم إلى قسمين بواسطة شارع مرصوف. وقد بناه الملك حاتوسيلي الثالث في أواسط القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وعلى الأرجح أنهم اعتادوا في داخله، أن يمارسوا عبادة الزواج المقدّس لديهم الذي يشكّله"حاثي"، إله الطقس، و"أرينا" إله الشمس.

القاعات الكثيرة المحيطة بالمعبد، المميزة بجرار ضخمة مرصوفة إلى جانب بعضها البعض، كانت على الأرجح ضرورية لإدارة المبنى التي شملت التخطيط للطقوس والاحتفالات الدينية المفصّلة التي كانت تقام أمام جمهور كبير جداً.

ثمة صخرة معلقة مُشِْرَفُةُ، تدعى الآن بالتركية"بويوكال"سيطرت على المدينة بأسرها ولكن ماذا كانت عاقبة تلك القصور والمعابد والمدن, إنه الزوال الذي قهر الله تعالى به كثيراً في الأمم المتجبرة.

قال تعالى:

? أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ?6??[ الأنعام: 5 ]

"البويوكال" كان الحصن أو القلعة وكان مكان سكن الملك. كان حصناً طبيعياً: منبسطاً، بقياس(500 بِـ 650) قدماً مغطى كلياً بالأبنية نظراً لوجود البوابات الكثيرة والأبراج والجدران المزودة بفتحات للقتال، كان الحصن يبدو هكذا عند إعادة البناء الإفتراضية.

كان للأبنية أشكال ومقاييس مختلفة, والغرف كانت عموماً مخططة لتواجه ساحةً أو فناءً. كانت الجدران مزودة بفتحات للقتال وحول المكان بأكمله كان يوجد أبراج مختلفة للدفاع عن الحصن.

أما هدف تلك الأبنية فلم يكشف كلياً بعد. وبالإضافة إلى المجال الحيوي نفسه، كانت بعض الغرف تستعمل قاعاتٍ للاستماع أو للاجتماعات العامة؛غرف وقاعات أخرى كان لها وظيفة دينية خالصة. وقد استفادوا جيداً من المجال المحدود على المنبسط. وفقاً لنقش على أحد الألواح الأثرية، فإن ملك "حتوسة" بعد عودته من حملة عسكرية، قام بسجن قرابة 3330 أسيراً في القصر الملكي . . لكن القليل بقي من تلك الآثار لأن حتوسة دمرت .

إذن ما الذي حدث للحثيين؟ ما إن دمرت مدنهم حتى تبعثروا في الأرياف وامتزجوا تدريجياً بالقادمين الجدد فزالت قوتهم وانتهت سيطرتهم وتحول عزهم إلى ذُل وكرامتهم إلى مَهانة جزاء كفرهم وضلالهم وفجورهم وإفسادهم في الأرض.

بعد الحثيين، وعبر القرون، مئات من الجيوش والشعوب المختلفة استقرت واستوطنت في تلك المناطق أو عبرت الجبال الأناضولية لتصل إلى أوروبا من آسيا والعكس صحيح ولم يبق من الجميع إلا الذكرى وفي هذا أعظم العبر لنا ولعلنا نعتبر.